السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
سيرة الرسول محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق وإمام الأنبياء، وحامل خاتم رسالات رب العالمين إلى الناس، النبى الأمى الذى سنتجول فى دروب حياته، نتنسم سيرته، ونتعقب خطواته، ونتسمع أخباره، ونسعى فى صحراء الجزيرة العربية نبحث، ونفتش ونقلب كتب التاريخ كى نتلمس آثاره، وفى رحلتنا تلك سنشاهد أحوال العالم قبل البعثة، ونطالع فصول حياته قبل نزول الوحى، ونتفهم كيف بدأ الدعوة سرًا؟، وكيف جهر بها؟، وكيف خرج بها من مكة؟، بل كيف خرج هو -صلى الله عليه وسلم- من مكة مهاجرًا إلى مدينته المنورة، حيث أسس لدعوته الدولة التى تحملها للناس، وسنرى كيف جاهد ببسالة كفار قريش؟ دفاعًا عن مدينته، حتى وقعت بينهما الهدنة. وما كسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدها قط، وما خلد إلى الراحة فى دولته، بل جعل الهدنة فرصة ليثبت أمر الدين، وينشر نور الحق، إلى أن كان الفتح، وكان دخول الناس فى دين الله أفواجًا. وفى رحلتنا تلك لن ننسى أن نلمح بيته ونعرف صفته، وندرك ماجعل الله على يديه من معجزات براقة.
العالم قبل البعثة..
قد يألف المرء النعمة، وقد تأنس عيناه النور؛ لكنه لن يعرف حمدًا حتى يدرك سلب النعمة وفوات النور، والناظر فى دنيا الإسلام لن يعرف فضله حتى يبصر كيف تهاوى الإنسان فى القرنين السادس والسابع فى أودية الظلم، وكيف تردى فى درب الشيطان، حين فقد عقله، وخفت فى الصدر نور قلبه، وجعل على عينيه غشاوة كفر تحجب عنه الإيمان. ذلك ما وصل إليه الأمر فى الحضارات السابقة المختلفة، وما وصل إليه الحال فى أمم العرب قبل البعثة.
- الحضارات السابقة:
ما أشقى الإنسان حين يبتعد عن منهج ربه، يزعم أنه يعلى من شأن عقله، ويحرر إرادته، فإذا عقله يرتع فى أودية الضلال، ويحشى بالأساطير والخرافات، وإذا هو مكبل بقيود أطماعه وشهواته، وشرائعه العقيمة التى سنها لنفسه، ثم أنت تتلفت فى دياره التى خلف، وآثاره التى ترك، تبحث عن حضارته، فلا تجد إلا أحجارًا منحوتة، ورسومًا منقوشة، وأعمدة شاهقة، وأبنية سامقة، فإذا فتشت عن الإنسان وجدته حائرًا ضائعًا ليس فى قلبه إلا الجزع، وما فى عقله إلا الخواء، فأين الحضارة إذن؟! ذلكم ما آل إليه أمر العالم قبل البعثة. الفرس فى المشرق، والروم فى المغرب، ثم إذا أنت توغلت فى آسيا صادفتك أممها الوسطى، ثم الهند والصين فى أقصى شرقها، فإذا أنت عرجت إلى أوروبا لم تجد ما يبهج فؤادك، وقد تتساءل عن حملة رسالة موسى
-عليه السلام-، فلا تجد أمامك إلا اليهود وهم فى أشقى حال، وقد تأخذك قدماك إلى الحبشة فى إفريقيا، أو إلى مصر أقدم الحضارات، فلا تجد فى هذا القرن الميلادى السادس إلا ما يدمى قلبك ويدمع عينيك، لكن لعلها كانت ظلمة الليل البهيم التى تنبئ عن فجر يشرق بعدها!.
- العرب قبل البعثة:
إنها لآية عظيمة من آيات الإسلام، حين يأتى قوم ما كان أحد يسمع عنهم إلا البداوة والشقاوة، فلا تمر بهم إلا سنون معدودة، فإذا نورهم يغمر الأرض بأقطارها، وإذا حضارتهم تسود ويقتبس منها كل أحد. سكن العرب جزيرتهم المعروفة، وانقسم أقوامهم إلى ثلاثة أقسام: العرب البائدة: كعاد، وثمود، وعملاق، وسواها ممن لا يعرف عن تفاصيل تاريخهم شىء، والعرب العاربة أو القحطانية: أبناء يعرب بن يشجب بن قحطان، والعرب المستعربة أو العدنانية: أبناء إسماعيل -عليه السلام-. وكان للعرب فى جزيرتهم أوضاعهم السياسية، والدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والخلقية، التى تميزوا بها، والتى يلزم معرفتها لإدراك الواقع الذى واجهه الإسلام وهو بعد فى مهده الأول: مكة المكرمة شرفها الله.
يتبع
حياته قبل البعثة..
الثمرة الطيبة لا تخرج من شجرة خبيثة الأصل، والبناء الشامخ لا بد له من أساس متين، ونبىٌ يراد له أن يحمل هداية الله إلى العالمين حتى قيام الساعة، لا بد أن تتعهده رعاية الله وتوجيهه حتى يؤهل للقيام بهذه المهمة الجليلة. ولا شك أن شرف نسبه وأسرته -صلى الله عليه وسلم-، ورعاية الله له فى مولده ورضاعته، وتعهده به صلى الله عليه وسلم، فى طفولته وصباه، ثم الكيفية التى قضى بها النبى الكريم حياته من الشباب إلى البعثة -لا شك أن ذلك كله كان تقديمًا رائعًا لبعثة نبىٍّ عظيم.
- نسبه وأسرته -صلى الله عليه وسلم:
اصطفى الله سبحانه وتعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أزكى ولد إسماعيل نسبًا، وشرف النسب لا يمنح الرجل الخامل ذكرًا أو شرفًا، لكن اجتماعه لمن اتصف بحميد الخلق، واكتسى بالهيبة، وتزين بالعقل والحلم، يزيده قدرًا وشرفًا ورفعة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وينقسم نسبه -صلى الله عليه وسلم- إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول إلى عدنان، والجزء الثانى إلى إبراهيم -عليه السلام-، والجزء الثالث إلى آدم -عليه السلام-، وقد اتفق على صحة الجزء الأول لكن اختلف فى الجزئين التاليين، أما أمه -صلى الله عليه وسلم- فهى: السيدة آمنة بنت وهب.
- مولده ورضاعته -صلى الله عليه وسلم:
حملت صبيحة الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول لأول عام من حادثة الفيل، والموافق للعشرين أو الثانى والعشرين من إبريل عام (571م)-حملت صبيحة ذلك اليوم للدنيا أجمل وأجل هدية: ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم تجد آمنة أمُّ خاتم النبيين يد عبد الله زوجها؛ لتربت عليها، وتشاركها فرحتها بوليدها الصغير، ولكنها أرسلت إلى جده عبدالمطلب تبشره بالغلام النجيب، وامتلأ قلب الشيخ الذى كساه الحزن؛ لفقد ولده الشاب الأثير- امتلأ بالبهجة والبشر، وأسرع فأخذه، وسار به حتى دخل الكعبة، ثم دعا الله وشكر له، واختارله اسم محمد، ولما كان اليوم السابع لمولده ختنه على عادة العرب، وأمر بناقة فنحرت، ثم دعا رجالاً من قريش فحضروا وطعموا. وكانت عادة ساكنى الحضر من العرب يومئذ أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، لتقوى أجسامهم، ويتقنوا اللسان العربى فى مهدهم، فالتمس عبدالمطلب من ترضع حفيده المحبوب، حتى صار الأمر لامرأة من بنى سعد بن بكر هى: حليمة بنت أبى ذؤيب، وفى ديار حليمة نشأ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتحرك لسانه بما تعلم، ودبت قدماه تسعى فى ديار بنى سعد وباديتهم، وبهذه البادية حدثت له -صلى الله عليه وسلم- حادثة شق الصدر الشهيرة، والتى كانت إرهاصًا بعظم شأنه -صلى الله عليه وسلم-.
- طفولته وصباه -صلى الله عليه وسلم:
عاد محمد -صلى الله عليه وسلم- من ديار حليمة إلى أحضان أمه، التى طال اشتياقها إليه، وحنت عليه آمنة حتى بلغ عندها ست سنين، ثم إن الأرملة الوفية لذكرى زوجها الشاب عبدالله، قد عزمت أن ترحل إليه بالمدينة، فترى قبره، وتُرى محمدًا أخواله من بنى النجار، خرجت آمنة فى رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متر، تصحب ابنها وخادمتها أم أيمن، ويصحبها عبدالمطلب، يحدوهم جميعًا حنينهم إلى قبر عبدالله، ومكثت آمنة بالمدينة شهرًا، ثم عُقِدَ العزم على الرحيل، لكنْ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وقد طالعت عيناه قبر أبيه فتجسد لديه معنى اليتم جليًا، كانت الأقدار تخبئ له مفاجأة أليمة أخرى فقد ألح المرض على أمه ولاحقها، حتى قضت نحبها بالأبواء بين مكة والمدينة، وعاد يتيم الأبوين حزينًا مع جده العطوف إلى مكة، فيكرمه جده، ويحبه، ويحنو عليه، بل ويقدمه على أبنائه، ويروى أن فراشًا كان يبسط لعبد المطلب فى ظل الكعبة لا يقربه أحد إجلالاً له حتى يخرج إليه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتى فيجلس عليه، فإن أراد أعمامه أن يؤخروه ولمحهم جده نهاهم عن ذلك، وأقره على ما يصنع، لكن أين يجد شيخ الثمانين متسعًا من الوقت ينشئ فيه حفيده؟. عاجلت المنية عبد المطلب فمات، وقد أوصى ابنه أبا طالب برعاية الحفيد اليتيم، وقام أبو طالب بمهمته خير قيام، وظل يساند ظهر محمد -صلى الله عليه وسلم- ويعضد جانبه ما يربو على الأربعين عامًا، ورحل محمد -صلى الله عليه وسلم- معه إلى الشام مرة وهو فى الثانية عشرة من عمره، فلقيا فى الطريق بحيرا الراهب، فعلم أنه نبى هذه الأمة ورده إلى مكة مخافة عليه، وشارك قريشًا حربها ضد قيس عيلان، وهو بعد فى الخامسة عشرة فى حرب الفجار، ثم شهد على أثره حلف الفضول بدار ابن جدعان إذ تحالفوا على نصرة المظلوم والغريب. وهكذا قضى النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم-، طفولة امتزج فيها حنان الجد بألم اليتم والفراق، واللعب واللهو بالجد والحرب مع الكبار.
- من الشباب إلى البعثة:
ورث محمد -صلى الله عليه وسلم- عن آبائه المجد والمكانة، وحفظه الله أن تصيبه لوثات الجاهلية، كما طهره من أدرانها، فكان خلقه قبل البعثة مثلاً بين قريش، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرث عن آبائه متاعًا أو تجارة فكان على شرف نسبه، وسمو مكانته، يسعى فى الأرض، يفتش عن رزقه، ويكدح يومه مجابهًا شظف العيش، وخشونة الحياة، وهو فى ذاك يتنقل بين رعى الغنم، والتجارة لخديجة، التى تزوجها بعد أن رأت من كريم خلقه مالم تر فى أحد من قريش، ويبقى بناء الكعبة والتحكيم بين المختلفين فيها أحد أهم الحوادث التى شارك فيها قبل بعثته.
نزول الوحي:
- غار حراء:
على مسافة تقارب الميلين من مكة كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يجد فى سكون غار حراء فسحة للتفكير والتأمل، ولا يحظى بها فى مكة الصاخبة، فكان يقيم فيه شهر رمضان، يطالع كتاب الله المنشور فى الكون باتساعه، ويقضى وقته فى عبادة إله هذا الكون، الذى رأى قدرته، وتاقت نفسه لمعرفة صفاته وأحكامه، حتى صفت نفسه، وزكا فؤاده، وأصبح مستعدًا لاتصاله بعالم الغيوب، فكانت الرؤيا -إحدى أجزاء النبوة- تأتيه فيجدها تجىء كفلق الصبح، واستمر على ذلك ما يناهز الشهور الستة، حتى كان نزول جبريل عليه بالغار فى رمضان، بعد أن تجاوز النبى -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره.
نزول جبريل عليه السلام:
فى إحدى الليالى الوترية بالعشر الأواخر من رمضان، وقد أتم النبى -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره، كانت الدنيا حيرى فى ظلمات الجاهلية المشتاقة إلى نور الله، قد استعدت لاستقبال رسول رب العالمين، الأمين جبريل -عليه السلام-، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- المتحنث فى غاره بغية الحق، فقد أصابه الفزع لنزول جبريل، وارتعد فؤاده لمجيئه، وضاعف من اضطرابه -صلى الله عليه وسلم- سؤال جبريل له أن يقرأ، وهو الرجل الأمى، أما جبريل -عليه السلام- فإنه بعد أن أعاد محمد قوله: ما أنا بقارئ، للمرة الثالثة فقد قام بإبلاغه أولى كلمات رب العالمين المرسلة إلى خاتم المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-: (اقرأ باسم ربك الذى خلق).
مضى جبريل إلى سمائه وبقى محمد -صلى الله عليه وسلم- فى غاره مضطربًا فزعًا، ما هذا الذى حدث له؟، من كلمه؟، وما هذه الكلمات التى نقشت فى صدره؟، لقد عهد الرؤيا الصادقة وتعود عليها، لكن ماذا يحدث له الآن؟ أتراه قد جن؟، إن نفسه ليس عليها شىء أبغض من شاعر أو مجنون، فإن كان قد جن فالموت خير له!! هكذا قرر فى ساعة فزعه بل وأسرع ينفذ خطته بأن يلقى نفسه من شاهق، لكنه ما إن توسط الجبل حتى سمع صوتًا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، فرفع رأسه إلى السماء فإذا جبريل فى صورة رجل صاف قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، وتسمر النبى -صلى الله عليه وسلم- فى مكانه، فما يتقدم أو يتأخر، وقد شغله ذلك عما أراد، وبعثت خديجة -رضى الله عنها- رسلها يبحثون عنه فى مكة فما وجدوه، وعادوا إليها، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فما إن ذهب عنه جبريل حتى أسرع هابطًا إلى خديجة زوجته العاقلة الحنون، يجلس إلى فخذها، ويلتصق بها، يقص عليها غريب خبره وعجيب أمره، فتطمئنه خديجة بقولها: أبشر يابن العم واثبت. فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبىّ هذه الأمة. ثم انطلقت خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتقص عليه الخبر.
مع ورقة بن نوفل - قدوس قدوس، والذى نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبى هذه الأمة فقولى له فليثبت. هكذا كانت كلمات ورقة الحاسمة، إلى خديجة المتسائلة، أليس ورقة رجلاً يقرأ فى الكتب السابقة؟، أليس هو يعرف قرب أوان نبى هذه الأمة وصفته؟، ثم أليس هو يعرف محمدًا؟، ففيم التردد وفيم الدهشة؟ محمد نبى هذه الأمة! هذه هى الحقيقة ببساطة، وما صنع ورقة سوى أن رددها بلسانه! ثم إذا قابل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- تمنى فقال: يا ليتنى فيها جذع، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، ثم يجيب النبى المتعجب من إخراجه: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. سنن متتابعة ليس منها مفر، ولا عنها من محيص، لكن ورقة لم يدركه يوم محمد -صلى الله عليه وسلم- ليبر بوعده، فما لبث إلا يسيرًا حتى مات ورقة.
إن فؤاد محمد -صلى الله عليه وسلم- القلق، ونفسه الفزعة قد أذهب ما بهما حديث خديجة المطمئن، وكلمات ورقة الثابتة، لكن محمدًا وقد ذهب قلقه، وانتهى فزعه، تلفت مشتاقًا ليرى وحى ربه فلم يجده وانتظر أيامًا، فتباطأ الوحى عنه. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- الذى روى عنه من أيام إسراعه إلى خديجة مضطربًا يروى عنه الآن شدة حزنه وألمه لفراق الوحى، حزنًا جعله يعدو مرارًا ليتردى من رؤوس شواهق الجبال، لكنه كلما همّ بشىء من ذلك تبدى له الأمين جبريل -عليه السلام- قائلاً: يا محمد إنك رسول الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه، فإن طال عليه الأمد عاد لما يصنع، فعاد الوحى لما يصنع به!! وظل هكذا أيامًا حتى آب إليه الوحى.
علم محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه نبى! وانتظر الوحى، ولعل تشوقه إليه كان ضروريًا لاحتماله عند اللقاء، وبينما النبى -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم يمشى إذ رفع بصره إلى السماء فرأى جبريل قاعدًا على كرسى بين السماء والأرض، فهوى النبى -صلى الله عليه وسلم- على الأرض فرقًا، وجاء خديجة يرتعش مرددًا: زملونى زملونى؛ فأنزل الله تعالى إليه: (يا أيها المدثر..) إلى قوله (..والرجز فاهجر)، ثم حمى الوحى وتتابع بعد ذلك وكانت تلك الآيات أمرًا بالدعوة بين الناس.
إن كانت مقدمة الرسالة دعوة النبى الكريم أن يقرأ، يقرأ هذه الرسالة، ويقرأ باسم ربه، لأنه الذى خلق، وأكرم، وعلّم، فإن الدرس الأول بهذه الرسالة كان درسًا جامعًا حقًا، فعلى بساطة الكلمات وسرعة تتابعها، إلا أنها حملت الكثير من المعانى، ومن بين هذه المعانى كان الأمر الأول للمدثر-صلى الله عليه وسلم- أن يقوم لينذر، وغاية الإنذار هنا: تبليغ دعوته كل إنسان يتنفس فوق الأرض، آمن هذا الإنسان أم لم يؤمن، واتبع فاهتدى أم أعرض فتردى! أما باقى المعانى المتتالية فتكبير لله حتى لا يكون هناك كبرياء إلا له وحده، وتطهير للظاهر والباطن من النجس والشوائب والعلل، واستصغار للجهد والعمل مهما بلغ أو وصل، ثم صبر بعد ذلك فى الله -عز وجل-، على ما يلقاه من جهد أو عنت.
الدعوة سرًا:
عن أدران الجاهلية، وحماقاتها المتعددة، ومساوئها المختلفة، نأى محمد
-صلى الله عليه وسلم- وابتعد، ليس بروحه الطاهرة فحسب، بل بجسده أيضًا. إذ كان يمكث الليالى ذوات العدد فى غار حراء متعبدًا لربه ومتقربًا. ودون تأهب منه أو توقع؛ فوجئ -صلىالله عليه وسلم- بنزول الوحى إليه، وتبليغه برسالات ربه. وما كان على النبى الأمين -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن يبلغ النور الذى يحمله إلى الناس من حوله، فظل يبلغ الدعوة سرًا طوال ثلاثة أعوام، ينتقى من يلتمس فيه صلاحًا، فيسمعه القرآن المنزل عليه، ويجمعه مع إخوانه الذين سبقوه لدين الله، منتظرًا ومتهيئًا نزول أمر الله بالجهر بدعوته.
الدعوة جهرًا:
ما إن نزل أمر الحق تبارك وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالجهر بالدعوة، حتى قام النبى على جبل الصفا؛ يعلن على الملأ حقيقة رسالته. لكن الآذان التى لم تتعود سماع الحق، والعقول التى ألفت الدعة والنوم، والنفوس التى عشقت الضلال حتى أدمنته، لم ترض لنور الله أن يسطع بين حنايا مكة؛ حتى يكون لها فى منعه دور ونصيب. وقد تحمل النبى -صلى الله عليه وسلم-، وعصبته المؤمنة مخاطر وألم المواجهة والإيذاء، وسطروا بدمائهم وأرواحهم أروع آيات الصبر والثبات. وهم إن عدموا ملجأ يحتمون به فى دروب مكة ودورها على تعددها واتساعها فقد وجدوا فى دار أخيهم الأرقم النائية بعض الأمن وبعض الجزاء، فبين جدران هذه الدار المباركة كانوا يتعلمون أحكام دينهم، ويتربون على قيمه السامية، ثم كان فى الهجرة إلى الحبشة بعد اشتداد الإيذاء الحماية والمنعة، فى بلد عُرِفَ ملكها بالعدل والإنصاف. أما مسلمو مكة ممن لم يهاجروا إلى الحبشة، فقد قويت شوكتهم بإسلام حمزة وعمر -رضى الله عنهما-. ولما أيست قريش من أساليب المواجهة والإيذاء لجأت لأساليب المساومة والإغراء، لكن هيهات لمن رأى النور الحق أن يخدع ببريق الشهوات. وعلى حمية الجوار جمع أبو طالب بنى هاشم وبنى المطلب، لنصرة ابن أخيه، وهنا لم يبق لقريش إلا أن تعلن المقاطعة العامة للمسلمين وأنصارهم، وكما صبر المسلمون على ألم الإيذاء، وفتنة الإغراء، مشوا بأقدامهم على أشواك هذه المقاطعة ليصلوا إلى هدفهم النبيل. وكمحاولة يائسة حيرى أخيرة أرسلت قريش وفدًا منها إلى أبى طالب؛ ليعاود المفاوضة، ولم يعد إلا بما استحقه: خفَّى حنين. وفى العام العاشر للنبوة ألمت برسول الله والمسلمين مصيبتان: وفاة أبى طالب، ووفاة خديجة -رضى الله عنها- ؛ فسُمِّىَ هذا العام بعام الحزن.
- المواجهة والإيذاء:
صارح محمد -صلى الله عليه وسلم- قومه بضلالهم، وواجههم بالنور الذى يحمله، لكن الأعين التى أنست الظلمة إذا واجهتها الأضواء أبت وتألمت، أعلنت مكة الحرب على نبيها وأتباعه من اليوم الأول، شنت عليه حربًا دعائية لتصرف الناس عنه، ثم استخدمت سلاحى السخرية، وإثارة الشبهات؛ لتفت فى عضده، وأخذت فى اختراع الحيل لإشغال الناس عنه، وبين الترغيب والترهيب كان استخدامها للمساومة مرة والاضطهاد مرات أخرى، وصارت تضغط بثقلها على حاميه بمكة: عمه أبى طالب، أما المسلمون الذين آمنوا به فقد توافر لهم من عوامل الصبر والثبات ما يسّر لهم اجتياز هذه المحنة، ومن وضوح الطريق ما أعانهم على السير فى هذه الظلمة.
- دار الأرقم:
الوضع فى مكة جد خطير، فالدعوة الوليدة تنساب إلى كل بيت، تهز كيان مكة الدينى، وتزعزع أركان قريش فى أرض العرب، وأعين المشركين وآذانهم تعد على المسلمين أنفاسهم، وتحصى خطواتهم، وتتسمع أخبارهم، لتجهز عليهم، ولذا كان من الواجب على المسلمين أن يستتروا، وأن يتخفوا عند اللقاء، وبدار الأرقم بن أبى الأرقم كان اجتماعهم الدورى بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكان وراء اختيار هذه الدار أسباب وجيهة. أما ما كان يحدث داخلها، بعيدًا عن أعين قريش، فكان حدثًا فريدًا فى التاريخ، صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أول من آمن به وصدقه ودافع عن دين الله، يجلسون إلى رسول العالمين بنفسه، يتلقون منه آخر ما نزل به جبريل الأمين من ربه -عز وجل-، تلقيا دائمًا مستمرًّا، تزكو به نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتصاغ عقولهم وأرواحهم صياغة جديدة، رحم الله الأرقم ورضى عنه، لقد جعل داره مرفأ لسفينة الإيمان، ومهدًا لدعوة الله عز وجل، ومدرسة تلقى فيها الأولون دينهم.
- الهجرة إلى الحبشة :
الدفاع عن النفس، وقتال من بغى واعتدى، لم ينزل أمر الله به بعد، والبقاء فى مكة أصبح مستحيلاً، مع هذا الاضطهاد والتعذيب، فماذا يفعل المسلمون إذن؟ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته، قد ارتأى لهم أن يفروا بدينهم إلى ديار آمنة، فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر منهم فى رجب سنة خمس من النبوة اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجه السيدة رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد هاجر هؤلاء الصحابة تسللاً وخفية، فى سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، حيث النجاشى الملك العادل، الذى لا يظلم عنده أحد. وما كاد المسلمون المهاجرون يستقرون بالحبشة حتى سارت إليهم شائعة بإسلام قريش، فقفلوا راجعين إلى مكة فى شوال من نفس العام، وما تبينوا الحقيقة إلا بعد ساعة من نهار فى مكة. واشتد تعذيب المشركين لهم، فكانت هجرتهم الثانية رغم يقظة المشركين، وشدة حذرهم. وبلغ عددهم فى هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة، لكن أنى لنار قريش أن يهدأ أوارها، لقد عز عليها أن تعلم أن المسلمين قد وجدوا مأمنًا يعبدون فيه ربهم، فكانت مكيدتها بإرسال رسولين إلى الحبشة لاستردادهم من النجاشى، وقد خاب سعيهم، وبطل مكرهم، ورد النجاشى رسولى مكة دون أن يقضى لهما حاجة، بل أعلن إيمانه بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما هؤلاء المهاجرون، فقد مكثوا بالحبشة، حتى مكن الله لنبيه بالمدينة، فعادوا إليها، وكان آخرهم عودة جعفر بن أبى طالب بعد فتح خيبر.
- تقوية شوكة المسلمين :
كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبى -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ويأبى المعاند أن يترك محمدًا كريم الخلق يمضى فى طريقه، حتى يضربه بحجر فى رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هى إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية فى بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذى الحجة للعام السادس من نبوته -صلى الله عليه وسلم- تمر بعد إسلام حمزة -رضى الله عنه- حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة على وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفى أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة فى دارالأرقم تجد طريقها إلى الكعبة، فى وضح النهار، وعلى مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، فى صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذى أبى الاختباء، وأقسم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: والذى بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به!.
يتبع