الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتقوم إسرائيل بين الحين والآخر بعملية "جس نبض" حول التفاف المسلمين في فلسطين خاصة، والعالم الإسلامي عامة حول المسجد الأقصى واستعدادهم للتضحية في سبيله.
وإسرائيل بحكم تخصصها في الجريمة المنظمة، وفي سبيل محاولاتها المستميتة فرض سيطرتها النهائية على المسجد الأقصى، وعلى فلسطين كخطوة على ما أسموه بدولة إسرائيل الكبرى تترصد وتتحين الفرص. فهل تجد إسرائيل فرصة أفضل من تصفيات "كأس العالم"؛ لتجرب فيها عدوانها على المسجد الأقصى؟!
إن تلك التصفيات مثالية؛ لأن الكرة حيث كانت هي "أفيون الشعوب"، والوسيلة المثالية لتخديرها، والوسيلة التي وإن وحَّدت يومًا ما وحدة ظاهرية فإنها تفرق أضعافها، وهو ما يكون في أُوجّه في تصفيات كأس العالم حيث يصطدم أكثر من منتخبيْن عربييَّن في هذه التصفيات عادة.
ولن نحتاج إلى مبالغات ولا تشبيهات لكي نعبر عن حجم هذه المأساة أكثر من تلك الحرب الكلامية التي تشتعل الآن بين المصريين والجزائريين من السب والقذف، وأمثلهم طريقة من يتكلم عن الموقعة الحربية المرتقبة، والإستاد الذي سوف يتحول إلى جحيم "على الجزائريين"، وهي كلمة لو قيلت في حق إسرائيل جَدًا أو مزاحًا، حقيقة أو تهريجًا لَمَا كفاهم في إطفائها ماء البحر، وكل هذا ليس على أيدي "مهاويس الكرة" في المدرجات! إذن لهان الخطب، وما هو بهين، ولكنه "فوضى الفضائيات" جعلت بعض ذوي العقول الصبيانية يجلس خلف الميكرفون ليوجِّه أمة بأسرها!
وما كان لهذه الحالة أن تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أن أرهب اليهود كثيرًا من المنتسبين إلى العلم في دين الله؛ ليفتوا بما يوافق أهواءهم، وإلا عُدوا رجعيين ومتزمتين، هؤلاء الشيوخ الذين يكتشف الواحد منهم فجأة أن النقاب ليس من الإسلام بينما كتبه التي خطها بيمينه من قبل قاطعة بأنه من الإسلام هم أنفسهم الذين متى سُئلوا عن الغناء قالوا: "كلام حسنه حسن وقبيحة قبيح"، ولم يزيدوا على ذلك اللهم إلا الهجوم على من يسمونهم بالمتنطعين الذين يحرمون الغناء كله مع أن هؤلاء المحرِّمين للغناء إنما يحرمون غناء كلماته مهيِّجة للشهوات، وفوق هذا تصاحبه الموسيقى؛ بالإضافة إلى التطور الأخير الذي لحق الغناء حيث صار حركات راقصة عارية، ومع ذلك ما زال هؤلاء المنتسبين إلى العلم يقولون عن الغناء: "إنه كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح"!!
وأما الكرة فهي عندهم تـَريض يقوي الجسم، ويساعد على التعارف والتآلف بين الشباب، وكأنهم يصفون لعب الأطفال الصغار، وقد فاتهم أن الكرة في زماننا تـُعقد لها المسابقات مخالفـَة لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:«لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ أَوْ خُفٍّ» [رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني]، وألحق به أهل العلم جميع التدريبات الحربية، وألحق به بعضهم مسابقات العلم الشرعي.
وهؤلاء الشيوخ الذين يتنازلون عن كثير من أمور الشرع عند أول شبهة يتوهمون معها ضررًا؛ كزعمهم: أن الرجال يتخفون فيه لدخول الأماكن الخاصة بالنساء فقط، مع أن من أراد التنكر إن لم يكن ثمة نقاب يُمكـِّنه لاسيما في زماننا أن يحول نفسه بالأدوات الصناعية إلى امرأة متبرجة دون أن يلاحظه أحد، ومع أن الناس يتنكرون في زي الشرطة، وغيرها بلا نكير!
وها هنا لا يطالب أحد بإلغاء مسابقات الكرة الجديرة أصلاً بالإلغاء رغم كل المفاسد التي تترتب عليها -"مات في احتفالات الجمهور الجزائري بفوزه بأحد المباريات في هذه التصفيات خمسة عشر مشجعًا، وأصيب العشرات، ومن جهة أخرى يتحدث المصريون عن حالات تسمم غذائي متعمدة حصلت لهم في مباراتهم مع الجزائر في الجزائر، ويتوعدون بالأخذ بالثأر عندما يقدمون القاهرة في المعركة الحربية القادمة"-!!
أقصى ما يمكن أن تبلغه الكرة في الإسلام أن تكون "عادة" من اللهو المباح إذا خلت عن المحاذير: كالمسابقة عليها، وكعدم تضييع الواجبات من أجلها -"حدث ولا حرج عن الإعتكاف في المقاهي قبل المباراة بساعة وبعدها بساعة؛ بحيث يقضي المشاهِد نحو ثلث يومه لمشاهدة المباراة، وأما مشاهدتها في الإستاد فقد يتطلب الأمر يومًا بأكمله! كل هذا مع تضييع الصلاة أو على الأقل تضييع أوقاتها والتفريط في صلاة الجماعة!"-.
ومع ذلك ارتقت الكرة عند البعض حتى صارت جديرة بأن يباح الفطر في رمضان بسببها!!
وفي هذه الأثناء التي بلغت فيها مفاسد الكرة أوجها بهذا الصدام الحامي بين البلاد العربية والإسلامية؛ قام اليهود بحركات جس النبض الدنيئة التي قاموا بها، ولما وجد اليهود أن في الأمة شريحة كبيرة لا يشغلها اللهو عن الإهتمام بالمسجد الأقصى أرادوا إشغال أهل الدين، ولكن في هذه المرة بالدين؛ فاستغل البعض من أذناب اليهود خطأ فادحًا من شيخ الأزهر في تبكيت طالبة على ارتدائها النقاب، وهو خطأ كان يمكن أن يمر وأن "يبلع" الناس ما قيل لهم من مبررات؛ لولا تحول الأمر إلى حرب معلنة على النقاب في كل وسائل الإعلام، وخرج مقدمو البرامج الذين كانوا بالأمس مستضيفين مغنية، وقبله كانوا مستضيفين راقصة، وقبله كانوا يحرِّضون "الجماهير الكروية" على محاصرة فريق الجزائر أينما ذهب؛ ليجعلوا من أنفسهم حاكمين في قضية شرعية كهذه!!
وقد يبادر قائل ويقول: إذن فلنفوت عليهم الفرصة ولا ننشغل معهم بحرب النقاب!
نقول له: إن هذا المسلك من أخطر المسالك حيث إن قضية الأرض، والعرض، والعقيدة، والشريعة كلها قضايا مصيرية، ومتى أردنا أن نفوِّت عليهم الفرصة، ونترك لهم قضية النقاب فلا نقارعهم فيها الحجة فإنهم سوف يتوغلون فيها، ويكسبون فيها أرضًا جديدة، بل أراض، وسوف يشغلون عموم المسلمين عما أرادوا إشغالهم عنه من أمر المسجد الأقصى أو غيره.
ولكن العلاج الوحيد يكمن في التوكل على الله والإستعانة به، والعمل في جميع الجبهات، وألا يشغلنا نحن أمر عن أمر، ولا واجب عن واجب، ولا علم عن علم، ولا علم عن عمل، وإنه لعظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
وانظر إلى الفاروق عمر -رضي الله عنه- يُطعن تلك الطعنة الغادرة النافذة إلى تجويف معدته، ثم يستدير وينظر، وتمتد يده لا ليمسك بها جرحه، وإنما ليمسك بها يد عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه يقدمه لإمامة الناس!
أي قوة عقلية وذهنية، وبدنية تلك التي استطاع بها أن يفعل ذلك في تلك اللحظة الأليمة من حياته؟!
إنها القوة الإيمانية التي بها انتصرت الأمة في تلك العصور الفاضلة.
وها هو يُحمل إلى بيته فيغمى عليه، ويفيق فيسأل: هل صليتم؟ يقولون: نعم. فيقول: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة".
وبينما هو مشغول بأمور جسام تخصه، وتخص الأمة ككل: من اختيار خليفته، إلى ترتيب موطن دفنه، إلى الوصية بجميع أموره، ومنها العدل مع القاتل ومع بني جنسه! يأتيه شاب يثني عليه خيرًا ثم يولي؛ فيرى أن في ثوبه طولاً فيقول: "ردوه علي". ثم يقول: "يا ابن أخي ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك".
هذه الروح العظيمة، والهمة العالية هي التي ينبغي أن تتعامل بها الأمة؛ لا سيما الدعاة إلى الله في هذه الآونة التي كثر فيها، وسيكثر فتح الجبهات على الدعاة إلى دين الله، فهل من مشمر عن ساعد الجد، قائلاً بلسان حاله ومقاله: "حسبنا الله ونعم الوكيل"؟!
نسأل الله أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين.