الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فإن حكام المسلمين على مر الدهور والعصور ليسوا سواءً فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق للخيرات بإذن الله، ذلك الفوز الكبير.
فيهم من أقام العدل في أمته، فجعله الله للمتقين إماما، وفيهم من أشاع الظلم في دولته، فأهلكه الله عقوبة وانتقاما، وكان منهم من يرفض النصيحة، ويراها فعلة قبيحة لا تليق بمقام الحكام، ومنازل العظام!!، ومنهم من يقبلها ويفرح بها ويشكر أهلها، ويعمل بها... وقليل ما هم، ومن هؤلاء القلة القليلة كان الخليفة المنصور – رحمه الله -، وقد نقل عنه في كتب التاريخ والسير هذه الموعظة البليغة والتي أردت أن يقف عليها القراء بتمامها حتى ينتفعوا ببالغ عبرتها ، وعظيم تأثيرها ... وإليك البيان:
بينما "المنصور" فى الطواف بالبيت ليلاً إذ سمع قائلا يقول: "اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع".
فجزع المنصور، فجلس بناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل، فصلى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم على المنصور بالخلافة وجرى بينهما الحديث الآتي، قال الخليفة:
- ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني.
- إن أمنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها وإلا احتجزت منك، واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل.
- أنت آمن على نفسك، فقل...
- يا أمير المؤمنين، عن الذي دخله الطمع وحال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد والبغي هو أنت.
- ويحك، كيف ذلك؟، كيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟
- وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟، إن الله استرعاك أمر عباده و أموالهم؛ فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحراساً معهم السلاح. ثم سجنت نفسك منهم، وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان، نفراً سميتهم. ولم تأمر بوصول المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري إليك. ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصت لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبى الأموال وتجمعها. قالوا: هذا قد خان الله. فما لنا لا نخونه؟، فأتمروا أن لا يصل إليك علم من أخبار الناس شيء إلا ما أرادو، ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك ونفوه حتى تسقط منزلته، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلماً وبغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه، فإذا أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك وأوقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم. فإن جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك خبره سألو صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه، فإذا اجهد وأخرج ثم ظهرت أنت صرخ بين يديك فيضرب ضرباً مبرحا يكون نكالاً لغيره وأنت تنظر فما تنكر. فما بقاء الإسلام؟... وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين، فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه، فبكى بكاءً شديداً، فحثه جلساءه على الصبر، فقال: أما أني لست أبكي للبلية النازلة، ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته. ثم قال: أما إذ قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب. نادوا في الناس أن لا يلبس ثوباً أحمر إلا متظلم،ـ ثم كان يركب الفيل طرفي النهار، وينظر هل يرى مظلوماً، فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك!، فإذا كنت تجمع المال لولدك فلقد أراك الله عبراً في الطفل يسقط من بطن أمه ماله على الأرض مال. وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس له. ولست أنا الذي تعطي. بل الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء. فإن قلت: إنما تجمع المال لشديد السلطان؛ فقد أراك الله عبراً في بني أمية، ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب. وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت: إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغايات التي أنت فيها؛ فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك. وهل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟
- لا
- فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم، فقد رأى ما عقد عليه قلبك، وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك واجترحته يداك، ومشيت إليه رجلاك؛ هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا، إذا انتزعته من يدم، ودعاك إلى الحساب، فبكى المنصور وقال:
- ليتني لم أخلق... ويحك، كيف أحتال نفسي؟
- يا أمير المؤمنين إن للناس أعلاماً يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم؛ فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك.
- قد بعثت إليهم فهربوا مني.
- خافوك أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات على حلها، واقسمها بالحق والعدل على أهلها، وأنا الضامن منهم أن يأتوك ليساعدوك على صلاح الأمة، وأذن المؤذن فصلى المنصور وعاد فطلب الرجل فلم يوجد.
انتهت الموعظة!!
وإني أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن تجد هذه الكلمات من ينقلها أو يرسلها إلى الأمراء والوزراء لما فيها من الخير والسعادة لنا ولهم في ديننا ودنيانا، وأولانا وأخرانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه