فقد جاء الإسلام، والمجتمع العربي وغيره من المجتمعات، ينظرون إلى المرأة نظرة هابطة، فهي لا تعدو إلا مادة للمتاع، وإشباع الغرائز وحسب، فالفوضى المخجلة في العلاقات الأسرية والجنسية متدنية، بله غاية في السُّفول والانحطاط في الذوق الجمالي، يقابل هذا احتفال بالجسديات العارمة، وترك الالتفات إلى الجمال الرفيع السامي النظيف.
فجاء الإسلام برفع النظرة الاجتماعية إلى المرأة، وترسيخ الجانب الإنساني في علاقات الجنسين؛ فليست المرأة لكسر ثورة الجوع الجسدي، أو إطفاء لفورة الشهوة؛ وإنما وظيفتها وعلاقتها بالرجل والمجتمع، أسمى من ذلك، فصفَّى الإسلام العلاقة من عَرامة الحيوانية، وحتى في العلاقات الجسدية المحضة، فقد حفلت بالطهر والنظافة الروحية، مع صيانة عن كل تبذل.
علاقة مودة ورحمة، وسكن وراحة، وتحقيق عمارة الأرض، وحماية وصيانة الأسرة، ذلك المحضن الوارف للأجيال.
وفي ظل هذا المجتمع المسلم النظيف العفيف، يأمن الزوج على زوجته، والأولياء على حرماتهم وأعراضهم.
وعلى الرغم من طهارة المجتمع الإسلامي الأول، أمَر الله تعالى أطهرَ نساء العالمين وأرفعَهن مقامًا، أزواجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمهاتِ المؤمنين، بأمور غايةٍ في الأهمية؛ لصلاح المجتمع، فقال – سبحانه - : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32، 33].
فإذا كانت أمهاتُ المؤمنين الطاهراتُ، مطالباتٍ بهذا في خير الأزمنة على الإطلاق؛ فمن عداهن من النساء أولى وأحوج ممن عشن في كنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيوته الرفيعة، ومجتمعه الفريد؛ إما بالفحوى (قياس الأولى)، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى؛ ولذلك قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "تفسير ابن كثير" (ج 6 / ص 408): "هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء الأمة تبع لهن في ذلك".
وأما قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} يعني في الفضل والشرف؛ كما قال القرطبي وغيره، وليس المعنى: أن تلك الأحكام خاصة بهن، وهل يقول عاقل: إن غيرهن من النساء يباح لها أن تحادث الرجال بتكسُّر ولين، وترخيم بكلام رقيق ليَطمَع الذين في قلوبهم مرض ، وأن لها أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى؟!!
قال الأستاذ سيد قطب في "الظلال": "ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال: أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويُطمِع مرضى القلوب، ويُهَيِّج رغائبهم.
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير؟! إنهن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرفّ عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة.
وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟! في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار؛ ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ - ما يثير الطمع في قلوب، ويُهَيِّج الفتنة في قلوب، وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع، موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوجَ النبي الكريم، وأمَّ المؤمنين، وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخَلُّص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه، في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن، وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟! كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة، وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟! كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة، ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟! وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوَّث، وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن، ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟!
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}: من وَقَرَ يَقِرُ؛ أي: ثَقُل واستقر، وليس معنى هذا الأمرِ ملازمةَ البيوت فلا يبرحْنَها إطلاقاً؛ إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصلَ في حياتهن، وهو المقرَّ، وما عداه استثناءً طارئًا لا يثقلن فيه ولا يستقرِرْن؛ إنما هي الحاجة تقضى، وبقدرها.
والبيت هو مثابة المرأة، التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى، غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيَّأها الله لها بالفطرة.
ولكي يهيِّئ الإسلام للبيت جوَّه، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها؛ أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة؛ كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال - ما تشرف به على هذه الفراخ الزُّغْب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها.
فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه - لا يمكن أن تهب للبيت جوَّه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها، وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات، وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت؛ فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم، والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل، لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.
وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت، قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال.
فأما خروج المرأة لغير العمل، خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي، والتسكع في النوادي والمجتمعات - فذلك هو الارتكاس في الحمأة، الذي يردّ البشر إلى مراتع الحيوان.
ولقد كان النساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعًا من هذا؛ ولكنه كان زمان فيه عفّة، وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء، ومع هذا فقد كرهت عائشة – رضي الله عنها - لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس».
وفي الصحيحين أيضًا أنها قالت: «لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء، لمنعهن من المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل».
فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها؟! وماذا كان يمكن أن يُحدثن حتى ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!
{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}: ذلك حين الاضطرار إلى الخروج، بعد الأمر بالقرار في البيوت، ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج؛ ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة، حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة! والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان؛ إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة، ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان، وفي أي مكان، فيكون دليلاً على الجاهلية حيث كان.
وبهذا المقياس، نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين، وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة، ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى، وأخذ بها أول من أخذ أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على طهارته ووضاءته ونظافته". اهـ. موضع الشاهد منه مختصرًا.
هذا؛ وكل من زعم أن الأوامر المذكورة في الآية الكريمة خاص بأمهات المؤمنين، سواء من بعض من نسب إلى العلم، أو غيرهم - فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له علم، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يَعُول إليه، ولا مستند يركن إليه، ومثله كمن أراد أن يأتيَ بفائدة، فجاء بآبدة، أو كما قيل:
طلب الأبلق العقوق فلما فاته ذاك رام بيض الأنوق
وهل يقال إن الهدي الرباني المذكور في الآيات، أطهر لقلوب أمهات المؤمنين، ورجال الصحابة، دون من بعدهم؟!!
أم نقول - كما يقضي به صحيح المنقول، وصريح المعقول -: إن من بعدهم أحوج لذلك كله، وأشد افتقارًا منهم؛ لما بين الجيلين من الفروق الشاسعة، في قوة الإيمان، والبصيرة بالحق.
وأيضًا؛ فإن نصوص الكتاب والسنة، لا يجوز تخصيصها بالحدس والظن، فالله – سبحانه - بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الثقلين إلى يوم القيامة، ولهذا فحكمه - صلى الله عليه وسلم - لواحد من الأمة يشمل الأمة كلها، ما لم يرد نص صحيح يخصصه؛ وإلا فادعاء التخصيص بلا مخصص، خبط بلا دليل، وتشريع ما لم يأذن به الله.