الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى إخوانه من النبيين ، وعلى سائر الآل والصحب والتابعين ، وبعد :
فقد استاء أهل الإسلام في أرجاء الدنيا من المحاولات المتكررة للإساءة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من قبل عدد من الأشخاص غير المسلمين ، وخاصةً من المنتسبين للكتابين المقدسين التوراة والإنجيل ، وسبيلهم في هذه المحاولات رسومٌ ساخرة أو محاضرات ومؤلفات أوغيرها ، ويساعدهم في ذلك بعض وسائل الإعلام ، وخاصة في أوروبا وأمريكا.
وكان من آخر هذه المحاولات ما أقدم عليه رسام سويدي من رسم صور مسيئة يحاول الرمز بها لشخص النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وحاشاه فداه أبي وأمي ونفسي من كل سوء في وصفه أو شخصه أو هديه ، وحاول عرضها في أوائل أغسطس 2007 بمتحف "هيمسبوقدقارد" السويدي للفنون ،وبادر المتحف برفض نشرها لاعتبارات عديدة مع تقديرنا لهذا التعقل من مسئولي المتحف ،إلا أن صحيفة سويدية محلية تجاهلت المضامين السيئة لمحاولة الرسام السويدي فلبت له بكل أسف نشر تلك الرسوم المسيئة في 18 أغسطس.
ولا ريب أن هذا العمل مما يتنافى مع مبادئ وأسس الشرائع السماوية التي جاءت باحترام الأنبياء وتَنْزيههم عما يسيء إليهم ، قال الله تعالى في القرآن العظيم : (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [سورة البقرة، الآية:136].
كما توعد الله جل وعلا كل من وقف موقف العداء والإساءة للرسل الكرام فقال سبحانه: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) [سورة البقرة، الآية:98] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين مكانة الأنبياء وسوء عاقبة من اعتدى عليهم أو أساء إليهم.
وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إذ قال: وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أُهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل ، ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يَتُبْ إلا ولا بد أن يصيبه الله بقارعة .
كما أن تلك الرسوم المسيئة والأعمال الساخرة بالنبيين مما تمنع منه التشريعات الإنسانية والدساتير الدولية لما فيه من الاعتداء المعنوي على الآخرين ، بل على أشرف البشر ، وهم الرسل ، بل على سيدهم وسيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم ، ونذكِّر في هذا المقام بالقرار الذي تبنته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (بتاريخ 3/3/1426 هـ - الموافق12/4/2005 م ) الداعي إلى محاربة تشويه الأديان ، لاسيما الإسلام ، بسبب تكرر الإساءة إلى مقدسات المسلمين.
ومن جملة ما يدعيه أصحاب هذه الإساءات ومن ينشر إساءاتهم أنها داخلة في إطار حرية الإعلام والتعبير عن الرأي ، وهذا الادعاء غير صحيح ؛ ذلك أن الإعلام له أخلاقيات يجب التزامها، ومن هذه الإخلاقيات عدم الإساءة غير المبررة للآخرين ، كما أن التعبير عن الرأي ليس على إطلاقه بل إنه يقف عن حدود الإخلال بحقوق الآخرين ، ومن أعظم حقوق الآخرين مراعاة كرامتهم الإنسانية مهما كانت منزلتهم ، فكيف إذا كانوا من أكرم الخلق وهم الرسل عليهم السلام، فكيف بمقدمهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم إنَّ خبراء القانون الدولي يؤكدون أنه لا توجد حرية مطلقة إلا فيما يخص حرية الاعتقاد والتفكير، أما التعبير فهو سلوك اجتماعي يَرِدُ عليه التنظيم في أي مجتمع متحضر، وعند خبراء القانون في النظام الأنجليسكسوني وفي النظم اللاتينية، فضلاً عن الشريعة الإسلامية، فإن حرية التعبير يسبغ عليها القانون حمايته طالما ظلت تخدم أية قضية اجتماعية، ولا تشكل عدواناً على الآخرين، وللمحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة أحكام متواترة بهذا المعنى، والعبارة المتكررة في تلك الأحكام تنص على أن حماية حرية التعبير تظل مكفولة طالما تضمنت حداً أدنى من المردود الاجتماعي النافع، ونصها بالإنجليزية كما يلي: (A minimum of social redeaming value).
ويؤكد خبراء القانون أنَّ كل القوانين تُجَرِّم سبَّ الأشخاص والقذف في حقهم، حيث لا يمكن أن يعد ذلك نوعاً من حرية التعبير، لأنَّ السَّب في هذه الحالة يعد عدواناً على شخص آخر، ومن ثَمَّ فإن الأولَى بالتجريم هو من يسب نبي الإسلام الذي يؤمن بنبوته ورسالته ربع سكان الكرة الأرضية.
لقد كان الجدير بالساسة السويديين وعموم المسئولين الأوروبيين ، وبخاصة الاتحاد الأوروبي أن يبينوا مواقفهم ، رعاية لمقتضيات القانون الدولي ، والأعراف الدبلوماسية ، فيعلنوا خطأ هذه المنهجية المسيئة ، وأن تتصف الدوائر القضائية بالعدل وتمضي ما تنص عليه الأعراف والقوانين الدولية.
مع أن الواقع يبين أن دعاوى حرية الإعلام والتعبير عن الرأي لدى تلك الوسائل الإعلامية ينقضها ما يشاهده العالم من ازدواجية المعايير بحسب المصالح والشخصيات.
وإن من العجيب أن الذين تتابعوا على محاولة الإساءة للمقام العالي الشريف والجناب السامي الرفيع (جناب سيدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هم من المنتسبين لشريعة المسيح عيسى بن مريم ، عليه وعلى أمه أفضل الصلاة وأتم السلام ، كما شاهدنا في قضايا الرسومات المسيئة في الدنمارك وصحافتها وبعض الصحف الأوروبية، ثم من رئيس الكنيسة الكاثوليكية ، ثم اليوم من الرسام والصحيفة في السويد.
وهؤلاء لو كانوا صادقين في التزام شريعة المسيح وكتابه المقدس لكانوا من المتابعين والمستجيبين لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوصى المسيح ، وهو ما جاء مبيناً في قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) [سورة الصف، الآية:6].
ومن وقف على النسخ الصحيحة من الإنجيل فسيجد البشارة من المسيح عليه السلام بأخيه محمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه ، بل إنَّ الكتب المقدسه المنزلة على الأنبياء وبلاغاتهم جميعاً لأممهم فيها الأمر بتصديقه واتباعه ونصره ، كما أخبر الله بذلك في الكتاب المقدس المهيمن على ما سبقه من كتب وهو القرآن الكريم ، وهو قوله جلَّ وعلا: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [سورة آل عمران، الآية:81].
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [سورة الأعراف ، الآية:157].
وكان المنتظر في أقل الأحوال من المنتسبين لشريعة المسيح عليه السلام أن يكونوا من المدافعين عن الرُّسُل ، وعن خاتمهم محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وأن ينصفوا في وصفه ، كما صنع جدهم هرقل قيصر الروم ، (Hercules, the king of the Romans) وكما صنع النجاشي ملك الحبشة (Negus, the king of Abyssinia) وغيرهم من أهل العدل والإنصاف في مختلف العصور ، وقد سجل القرآن الكريم هذه المواقف النبيلة في مقام المدح والثناء فقال الله سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) [ سورة المائدة : 83].
وفي ضوء ما تقدم: فإننا المأمول من المرجعيات الدينية والمؤسسات الثقافية في السويد وغيرها من دول أوروبا وعموم دول العالم أن يكون لهم موقفهم الحازم في منع ما يسيء للمقدسات والشعائر الدينية المنزلة على الرسل ، ومنع ما يسيء لأي رسول ، وأن يستنكروا هذه الواقعة ، مع العمل على عدم تكررها ، وأن يملكوا من الشجاعة الأدبية ما يرتقون معه إلى منزلة العدل والإنصاف في أقل الأحوال.
كما أن على المسلمين ـ عامةً وخاصةً ـ أن يتحملوا مسئولياتهم نحو مقام النبوة ومكانة الشريعة ، فنحن نشاهد اليوم تشويهاً عظيماً لعقيدة الإسلام وللشريعة المحمدية ، من قبل الحاقدين والحاسدين من أهل الملل الأخرى ، ومن قبل بعض المنتسبين للإسلام ، فيتعين مع ذلك أن توضح حقيقة الإسلام الصافية ، وأن يتم التعريف بشخصية محمد رسول الله وبهديه صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يصدق العالم ما تشيعه وسائل الإعلام المغرضة من التشكيك أو التشويه ، ويتأكد ذلك في حق الإعلاميين والدعاة والتجار ورجال الأعمال ، وهكذا سفراء الدول الإسلامية والمراكز الإسلامية في الغرب والشرق والجالية الإسلامية هناك.
وكم هو مناسب أن يكون لهؤلاء جميعاً التعاون مع جهات الاختصاص بهذا الشأن ، وبخاصة البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة الذي تشرف عليه رابطة العالم الإسلامي.
فيجب علينا أهل الإسلام أن نقف مواقف صدق تكون حكيمة وحضارية وعملية ، عاجلة وطويلة المدى للإسهام في التعريف برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تعريفاً يمنع كل جاهل من الإساءة إليه أو تنقصه.
وينبغي أن نعلم أن نعلم أنه لا خوف على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنابه الشريف ، فقد حماه الله وعظم شأنه ، كما قال سبحانه: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [سورة الحجر، الآية:95] وكما قال جل وعلا: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [سورة الشرح، الآية:4] ، وغيرهما من الآيات ، وإنما الخوف والخشية علينا إن قصَّرنا فيما أوجب الله علينا من من نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه.
وينبغي أن ندرك أن متابعتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم والاستمساك بسنته والعمل بها من أعظم مظاهر الإيمان به ، وهو ما يغيض الأعداء والحاسدين ، وهذه المتابعة والنصرة هي منزلة الفلاح التي قال الله عن أهلها: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ سورة الأعراف، الآية:157].
والله نسأل أن يهدي كلَّ ضال إلى سواء السبيل ، وأن يجعلنا من أنصار نبيه وخدَّام دينه.
اللهم وصلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد ما تعاقب الليل والنهار ، وصلِّ اللهم عليه وسلِّم كلما ذكره الذاكرون الأبرار ، بمنك وكرمك ، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين .